الدّمى: الأثر الخفي لأكثر من مجرد لعبة

لطالما كانت العرائس والدّمى ركناً ثابتاً في غرفة كل طفل، لا باعتبارها مجرد أداة ترفيه، بل كـ”شريك صامت” في مراحل النمو المبكر. هذه الأجسام، سواء كانت ناعمة من القماش أو مصنوعة بدقة من البلاستيك، تلعب دور المحفز الأساسي لغرس مفهوم المسؤولية والرعاية، فالطفل بتعامله مع الدمية ككائن يحتاج إلى الطعام والملابس والاحتضان، يمارس عملياً أدواراً مستقبلية ويؤسس بنيته الفكرية تجاه الآخرين.وفي خضم الثورة الرقمية والتزايد الملحوظ لاهتمام الآباء بدمج الألعاب الميكانيكية والإلكترونية لتعزيز المهارات الرياضية والعلمية (STEM)، يبرز تساؤل جوهري: ما هو الثمن الذي يدفعه الجانب العاطفي والسلوكي للطفل مقابل هذا التحول؟ وهل يمكن لتقنيات العصر الحديث أن تحل محل الفوائد العميقة والفريدة التي توفرها الدّمية التقليدية لنمو الطفل الشامل؟

تشير الأدلة العلمية الحديثة إلى أن اللعب بالدّمى يتجاوز حدود الترفيه ليلامس صميم التنمية المعرفية والاجتماعية. لقد كشفت دراسة أجراها علماء الأعصاب في جامعة كارديف البريطانية عن نتائج هامة: اللعب بالدّمى ينشّط مناطق الدماغ المرتبطة بمعالجة المعلومات الاجتماعية والتعاطف، وهي مهارات تبقى فعالة حتى حين يلعب الطفل بمفرده. وهذا التنشيط كان على نفس مستوى الاستجابة الذي يحدث حين يتفاعل الأطفال اجتماعياً مع أقرانهم.

في المقابل، أظهرت الدراسة أن التعرض للألعاب على الحاسوب اللوحي أدى إلى استجابة أقل في المهارات الاجتماعية، حتى في الألعاب التي تتطلب جانباً من الإبداع. هذا يؤكد أن الدّمية تقدم للطفل ما لا تستطيع الأجهزة اللوحية تقديمه: التفاعل البشري المحاكي.كمت يُعد اللعب بالدّمى مختبراً آمناً يتيح للطفل بناء سيناريوهات تخيلية معقدة. فمن خلال الأدوار التي يتقمصها الطفل سواء كان مقدّم رعاية، طبيباً، أو معلماً  يتم صقل ثلاث مهارات حيوية:

1-تنمية التعاطف (Empathy): حيث يضع الطفل نفسه موضع شخص آخر أو كائن ضعيف.

2-مهارات التواصل: عبر الحوارات المتبادلة التي يختلقها مع الدمية.

3-حلّ المشكلات: من خلال معالجة “مشاكل” الدمية كالجوع أو المرض أو الحاجة إلى ملابس جديدة.

في هذا الإطار، لا تمنح ملحقات الدمى (الملابس، أدوات الطبخ) الطفل متعة إضافية فحسب، بل هي تسمح له بمحاكاة حياته الواقعية، لكن مع ميزة أساسية: هو المُتحكّم في الفعل وليس في ردّ الفعل. هذه السيطرة تمنحه القدرة على اكتشاف ذاته الطفلة والنظر بزاوية جديدة لعالمه وتجاربه، مما يعزز الثقة بالنفس.

تؤكد الدكتورة سارة عبد الحميد، استشارية ومدرّسة الطب النفسي، في مستشفيات جامعة عين شمس، على البعد العلاجي للدمى التقليدية. حيث تشير إلى أن الدمى التي تحاكي المهن أو الأدوار الأسرية “تقدم علاجاً فعالاً لأغلب مشكلات الطفولة من توتر ومخاوف تتعلق بالابتعاد عن الأم بعد مرحلة الفطام”.

كما تلعب الدّمية دور البديل الاجتماعي للطفل الوحيد، فهي تمنحه حياة تشاركية مع “شخصيات موجودة بالفعل وليست متخيلة”. فمن خلال إطلاق اسم وتفاصيل حياتية على الدمية، يصبح الطفل في تفاعل مستمر ومحاكاة لحياة اجتماعية حقيقية، وهو ما تراه الدكتورة عبد الحميد أفضل بكثير من “متابعة فيديوهات الكارتون أو مقاطع اليوتيوب المصورة”. وهي تطمئن الآباء الذين قد يتخوفون من تعلق أطفالهم بالدمية، مؤكدة أن هذا التعلق صحي ويعزز جوانب التنفيس العاطفي.

ولضمان أقصى استفادة نمائية للطفل، تقدم الدكتورة سارة عبد الحميد إرشادات هامة لاختيار الدمية:

1-معيار الحجم الآمن: يجب ألا تكون الدمية أطول من ذراع الطفل (المقاس من المرفق حتى أطراف الأصابع)، لضمان قدرته على احتضانها بسهولة مما يعزز شعور الأمان.

2-قاعدة البساطة الفعالة: “أفضل أنواع الدّمى… هي تلك التي لا تفعل أي شيء”. تؤكد الدكتورة عبد الحميد أنه لا داعي لدمية تتحدث بلغات متعددة أو تفرض مهاماً تعليمية. فالدّمية يجب أن تكون مجرد وسيلة ليقوم الطفل هو بـتكييفها والحديث معها بالشكل الذي يريده، لتعظيم دور الخيال والإبداع لديه.

وفي الختام، تتلخص قيمة الدّمية في حياة أطفالنا بأنها تمنحهم أماناً وثقة وقدرة على التفاعل أكبر بكثير، عبر التنفيس وضبط مستويات القلق وحل المشكلات، وهي استثمارات لا تقدر بثمن في بناء شخصية سوية وقادرة على التعاطف.


Relatetd Post

Leave A Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *